فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طعامه (24)}
إما مفرع على قوله: {لما يقض ما أمره} [عبس: 23] فيكون مما أمره الله به من النظر، وإما على قوله: {ما أكفره} [عبس: 17] فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر الإنسان.
والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة، إذ التقدير: إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه.
وهذا نظير الفاء في قوله تعالى: {إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق} [الطارق: 4، 5]، أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر مِمَّ خُلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو.
وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإِنسان ما أهملَه وكان الانتقال من الاستدلال بما في خَلْق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية: {من أي شيء خلقه} [عبس: 18] إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخاً للاستدلال، وتفنناً فيه، وتعريضاً بالمنة على الإِنسان في هذه الدلائل، من نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام.
وتعدية فعل النظر هنا بحرف {إلى} تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره.
والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض.
وجُعل المنظور إليه ذاتَ الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به.
وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي أكلها، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكوّن الحبوب والثمار التي بها طعامه، وقد وُصف له تطور ذلك ليَتَأمل ما أودع إليه في ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يَره، ولا يخلو أحد عن علممٍ إجمالي بذلك، فيزيده هذا الوصف علماً تفصيلياً، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد، وقد يكون تمثيلاً في جميع تلك الأطوار بأن تُخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بَذرها في الأرض ويُرسل الله لها قُوى لا نعلمها تُشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات، قال تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً} [نوح: 17، 18].
وفي (تفسير ابن كثير) عند قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} [التكوير: 7] عن ابن (أبي) حاتم بسنده إلى ابن عباس: يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كلُّ خلق بَلِي إنسانٍ أو دابة ولو مرّ عليهم مارٌّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد. اهـ.
وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكُنْه وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي.
والإِنسان المذكور هنا هو الإِنسان المذكور في قوله: {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17] وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله: {من أي شيء خلقه} [عبس: 18]، لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداءُ كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإِيضاح.
وأدمج في ذلك منة عليه بالإمداد بالغذاء الذي به إخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج، وَبِسبب كد الأعمال البدنية والإِفرازات، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب.
وإنما تعلق النظر بالطعام مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام، إجراءً للكلام على الإِيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله: {إنا صببنا الماء صباً} إلى آخرها.
فالتقدير: فلينظر الإِنسان إلى خَلق طعامه وتهيئة الماء لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم.
وقرأ الجمهور: {إنا صببنا} بكسر همزة {إنَّا} على أن الجملة بيان لجملة: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} لتفصيل ما أجمل هنالك على وجه الإيجاز.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بفتح الهمزة على أنه اسم بدلُ اشتمال من {طعامه} أو البدلُ الذي يسميه بعض النحويين بدل مفصَّل من مجمل.
والصَّب: إلقاء صبرة متجمعة من أجزاء مائعة أو كالمائعة في الدقة في وعاء غير الذي كانت فيه، يقال: صَب الماء في الجَرة، وصب القَمح في الهَرِي، وصَبَّ الدراهم في الكِيس.
وأصله: صبّ الماء، مثل نزول المطر وإفراغ الدلو.
والشق: الإِبعاد بين ما كان متصلاً.
والمراد هنا شقّ سطح الأرض بخرق الماء فيه أو بآلة كالمحراث والمسحاة، أو بقوة حرّ الشمس في زمن الصيف لتتهيأ لقبول الأمطار في فصل الخريف والشتاء.
وإسناد الصّب والشق والإِنبات إلى ضمير الجلالة لأن الله مقدِّر نظام الأسباب المؤثرة في ذلك، ومُحْكِمُ نواميسها ومُلهمُ الناس استعمالها.
فالإسناد مجاز عقلي في الأفعال الثلاثة.
وقد شاع في {صببنا} و{أنبتنا} حتى ساوَى الحقيقة العقلية.
وانتصب {صبّاً} و{شقاً} على المفعول المطلق لـ: {صببنا} و{شققنا} مؤكّداً لعامله ليتأتى تنوينه لما في التنكير من الدلالة على التعظيم وتعظيم كل شيء بما يناسبه وهو تعظيم تعجيب.
والفاء في قوله: {فأنبتنا} للتفريع والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه.
والحَب أريد منه المقتات منه للإِنسان، وقد تقدم في قوله تعالى: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} في سورة البقرة (261).
والعِنب: ثمر الكَرم، ويتخذ منه الخمر والخل، ويؤكل رَطباً، ويتخذ منه الزبيب.
والقضبُ: الفِصْفصة الرطبة، سميت قضباً لأنها تعلف للدواب رطبة فتقضب، أي تقطع مرة بعد أخرى ولا تزال تُخلف ما دام الماء ينزل عليها، وتسمى القَت.
والزيتون: الثمر الذي يعصر منه الزيت المعروف.
والنخل: الشجر الذي ثمرته التمر وأطوارهُ.
والحدائق: جمع حديقة وهي الجنة من نخل وكَرم وشجرِ فواكهَ، وعطفها على النخل من عطف الأعم على الأخص، ولأن في ذكر الحدائق إدماجاً للامتنان بها لأنها مواضع تنزههم واخترافهم.
وإنما ذكر النخل دون ثمرته، وهو التمر، خلافاً لما قُرن به من الثمار والفواكهِ والكلأ، لأن منافع شجر النخيل كثيرة لا تقتصر على ثمره، فهم يقتاتون ثمرته من تمر ورُطب وبُسر، ويأكلون جُمَّاره، ويَشربون ماء عود النخلة إذا شُق عنه، ويتخذون من نَوى التمر علفاً لإبلهم، وكل ذلك من الطعام، فضلاً عن اتخاذهم البيوت والأواني من خشبه، والحُصُر من سَعَفه، والحبالَ من لِيفه.
فذِكْرُ اسم الشجرة الجامعة لهذه المنافع أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال وإدماج الامتنان بوفرة النعم، وقد تقدم قريباً في سورة النبأ.
والغُلْب: جمع غلباء، وهي مؤنث الأغلب، وهو غَليظُ الرقبة، يقال: غلب كفرح، يوصف به الإنسان والبعير، وهو هنا مستعار لغلظ أصول الشجر فوصف الحدائق به؛ إما على تشبيه الحديقة في تكاثف أوراق شجرها والتفافها بشخص غليظ الأوداج والأعصاب فتكون استعارة، وإما على تقدير محذوف، أي غُلْببٍ شَجَرُها، فيكون نعتاً سببيّاً وتكون الاستعارة في تشبيه كل شجرة بامرأة غليظة الرقبة، وذلك من محاسن الحدائق لأنها تكون قد استكملت قوة الأشجار كما في قوله: {وجنات ألفافاً} [النبأ: 16].
وخصت الحدائق بالذكر لأنها مواضع التنزه والاختراف، ولأنها تجمع أصنافاً من الأشجار.
والفاكهة: الثمار التي تؤكل للتفكه لا للإقتيات، مثل الرُّطَب والعِنب الرَّطْب والرمان واللوز.
والأبُّ: بفتح الهمزة وتشديد الباء: الكلأ الذي ترعاه الأنعام، روي أن أبا بكر الصديق سُئل عن الأبّ: ما هو؟ فقال: أيُّ سماءٍ تُظلني، وأيُّ أرض تُقِلَّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به. وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوماً على المنبر: {فأنبتنا فيها حبًّا} إلى {وأبّاً} فقال: كلّ هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت في يده، وقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ ابتغوا ما بُيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فَكِلوه إلى ربه.
وفي (صحيح البخاري) عن عُمر بعض هذا مختصراً.
والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول الأبّ وهما من خُلّص العرببِ لأحد سببين:
إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسى في بعضها مثل اسم السِّكين عندَ الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك: ما كُنَّا نَقول إلا المُدْية حتى سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان عليه السلام قال: «ائيتوني بالسكين أقْسِمْ الطفْلَ بينهما نصفين».
وإما لأن كلمة الأبّ تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأبّ مما يرجع إلى قوله: {متاعاً لكم} أو إلى قوله: {ولأنعامكم} في جمْع ما قُسِّم قبله.
وذكر في الكشاف وجهاً آخر خاصاً بكلام عُمر فقال: إن القوم كانتْ أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يُعمل به تكلفاً عندهم، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإِنسان.
وقد علم من فحوى الآية أنّ الأبَّ بعض ما أنبته الله للإِنسان متاعاً له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عُدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يَجروا على هذا السَنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن. اهـ.
ولم يأت كلام (الكشاف) بأزيد من تقرير الإِشكال.
وقوله: {متاعاً لكم} حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة، وهذا نوع من التنازع.
وقوله: {ولأنعامكم} عطف قوله: {لكم}.
والمتاع: ما يُنتفع به زمناً ثم ينقطع، وفيه لف ونشر مُشَوَّش، والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره.
وهذه الحال واقعة موقع الإِدماج أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{عبس وَتولى (1)}
(العبوس): تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر، وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي، لكتم هذه الآيات، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش، (والتولي): هنا الإعراض، و{أن}: مفعول من أجله، وقرأ الحسن {أن جاءه} بمدة تقرير وتوقيف والوقف مع هذه القراءة على {تولى} وهي قراءة عيسى. وذكر الله تعالى ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره، وبين أمره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر، وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات متى كانت المنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس جائز، ومنه قول المحدثين سلمان الأعمش وعبد الرحمن الأعرج وسالم الأفطس ونحو هذا.
ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقيص فتلك الغيبة، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة تذكر امرأة، فقالت: إنها القصيرة، فقال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته ثم خاطب تعالى نبيه فقال: {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} أي وما يطلعك على أمره وعقبى حاله، ثم ابتدأ القول: {لعله يزكى} أي تنمو بركته وتطهره لله وينفعه إيمانه، وأصل {يزكى}: يتزكى، فأدغم التاء في الزاي وكذلك {يذكر}، وقرأ الأعرج. {يذكر} بسكون الذال وضم الكاف، ورويت عن عاصم، وقرأ جمهور السبعة: {فتنفعه} بضم العين على العطف، وقرأ عاصم وحده والأعرج: {فتنفعه} بالنصب في جواب التمني، لأن قوله: {أو يذكر} في حكم قوله: {لعله يزكى}، ثم أكد تعالى عتب نبيه عليه السلام بقوله: {أما من استغنى} أي بماله، و: {تصدى} معناه: تتعرض بنفسك، وقرأ ابن كثير ونافع: {تصدى} بشد الصاد على إدغام التاء، وقرأ الباقون والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى والأعمش: {تصدى}، بتخفيف الصاد على حذف التاء وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {تصدى}، بضم التاء وتخفيف الصاد على بناء الفعل للمجهول، أي تصديك حرصك على هؤلاء الكفار أن يسلموا، تقول: تصدى الرجل وصديته، كما تقول: تكسب وكسبته، ثم قال تعالى محتقرًا لشأن الكفار: {وما عليك ألا يزكى} وما يضرك ألا يفلح، فهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الأكتراث بهم، ثم قال مبالغاً في العتب: {وأما من جاءك يسعى} أي يمشي، وقيل المعنى: {يسعى} في شؤونه وأمر دينه وتقربه منك، {وهو يخشى} الله تعالى، {فأنت عنه تلهى} أي تشتغل، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو، وإما أن المعنى يتداخل، وقرأ الجمهور من القراء: {تَلهى} بفتح التاء على حذف التاء الواحدة، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه {تلهى} بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف: {تتلهى} بتاءين، وروي عنه {تَلْهى} بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {تُلْهى} بضم التاء وسكون اللام أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «وما استأثر الله به فَالْهَ عنه» وقوله تعالى في هاتين: {وأما من} فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم، ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف، فحَمَلَهُ الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة، ثم قال: {كلا} يا محمد أي ليس الأمر في حقه كما فعلت إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر {تذكرة} لجميع العالم لا يؤثر فيها أحد دون أحد، وقيل المعنى أن هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد ففي هذا التأويل إجلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأنيس له، وقوله تعالى: {فمن شاء ذكره} يتضمن وعداً ووعيداً على نحو قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه ومآباً} [النبأ: 39] وقوله تعالى: {في صحف} يتعلق بقوله: {إنها تذكرة}، وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن وقال بعض المتأولين: الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأنبياء المنزلة، وقيل: مصاحف المسلمين، واختلف الناس في (السفرة)، فقال ابن عباس: هم الملائكة لأنهم كتبة يقال: سفرت أي كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس أيضاً: الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه، وقال قتادة: هم القراء وواحد السفرة سافر، وقال وهب بن منبه: هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعليم، والقول الأول أرجح، ومن اللفظة قول الشاعر: الوافر:
وما أدع السفارة بين قومي ** وما أسعى بغش إن مشيت

و(الصحف) على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح، وعلى القول الآخر هي المصاحف، وقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} دعاء على اسم الجنس وهم عموم يراد به الخصوص، والمعنى: قتل الإنسان الكافر، ومعنى {قتل} أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد: {قتل} بمعنى لعن، وهذا تحكم، وقوله تعالى: {ما أكفره} يحتمل معنى التعجب، ويحتمل معنى الاستفهام توقيفاً أي أيّ شيء {أكفره} أي جعله كافراً، وقيل إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله» ويروى أنه قال: «ما يخاف أن يرسل عليك كلبه»، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة.
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)}
قوله تعالى: {من أي شيء خلقه} استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه، وهي عبارة تصلح للتحقير والتعظيم والقرينة تبين الغرض، وهذا نظير قوله: {لأي يوم أجلت ليوم الفصل} [المرسلات: 13] واللفظ المشار إليه ماء الرجل وماء المرأة، وقرأ جمهور الناس: {فقدّره} بشد الدال، وقرأ بعض القراء: {فقدّره} بتخفيفها، والمعنى جعله بقدر واحد معلوم من الأعضاء والخلق والأجل وغير ذلك من أنحائه حسب إرادته تعالى في إنسان إنسان، واختلف المتأولون في معنى قوله: {ثم السبيل يسره} فقال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي: هي سبيل الخروج من بطن المرأة ورحمها، وقال الحسن ما معناه: إن {السبيل} هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسره له هو هبة العقل، وقال مجاهد: أراد {السبيل} عامة اسم الجنس في هدى وضلال أي يسر قوماً لهذا كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان: 3]، وقوله تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وقوله تعالى: {فأقبره} معناه أمر أن يجعل له قبر، وفي ذلك تكريم لئلا يطرح كسائر الحيوان، والقابر هو الذي يتناول جعل الميت في قبره، والمقبر الذي يأمر بقبر الميت، ويقرره، و{أنشره} معناه: أحياه، يقال: نشر الميت وأنشره الله، وقوله: {إذا شاء} يريد إذا بلغ الوقت الذي شاءه وهو يوم القيامة، وقرأ بعض القراء: {شاء أنشره} بتحقيق الهمزتين، وقرأ جمهور الناس: {شاء أنشره} بمدة وتسهيل الهمزة الأولى، وقرأ شعيب بن أبي حمزة: {شاء نشره}، وقرأ الأعمش: {شاء انشره} بهمزة واحدة، وقوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} رد لما عسى أن للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة ونفي مؤكد لطاعة الإنسان لربه وإثبات أنه ترك حق الله تعالى، ولم يقض ما أمره، قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه، ثم أمر تعالى الإنسان بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه، وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيره إلى أن المراد {إلى طعامه} إذا صار رجيعاً ليتأمل حيث تصير عاقبة الدنيا، وعلى أي شيء يتفانى أهلها وتستدير رحاها، وهذا نظير ما روي عن ابن عمر: أن الأنسان إذا أحدث فإن ملكاً يأخذ بناصيته عند فراغه فيرد بصره إلى نحوه موقفاً له ومعجباً فينفع ذلك من له عقل، وذهب الجمهور إلى أن معنى الآية: فلينظر إلى مطعوماته وكيف يسرها الله تعالى له بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض، ويروى أن رجلاً أضافه عابد فقدم إليه رغيفاً قفازاً فكأن الرجل استخشنه فقال له: كله فإن الله تعالى لم ينعم به وكمله حتى سخر فيه ثلاثمائة وستين عاملاً الماء والريح والشمس ثلاثة من ذلك، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {أنّا صببنا} بفتح الألف على البدل وهي قراءة الأعرج وابن وثاب والأعمش، ورد على هذا الإعراب قوم بأن الثاني ليس الأول وليس كما ردوا لأن المعنى: {فلينظر الإنسان} إلى إنعامنا في طعامه فترتب البدل وصح، {وأنا} في موضع خفض، وقرأ الجمهور: {إنا} بكسر الألف على استئناف تفسير الطعام، وقرأ بعض القراء: {أنى} بمعنى كيف ذكرها أبو حاتم، و(صب الماء): هو المطر، و(شق الأرض): هو بالنبات، و(الحب): جمع حَبة بفتح الحاء وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه كالقمح والشعير ونحوه، والحِبة بكسر الحاء كل ما ينبت من البزور ولا يحفل به ولا هو بمتخذ، و(القضب) قال بعض اللغويين: هي الفصافص، وهذا عندي ضعيف، لأن الفصافص هي للبهائم فهي دخل في الأبّ، وقال أبو عبيدة: (القضب) الرطبة، قال ثعلب: لأنه يقضب كل يوم. والذي أقوله إن (القضب) هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم، وغضاً من النبات كالبقول والهِلْيُون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة، والغُلب الغلاط الناعمة، و(الحديقة) الشجر الذي قد أحدق بجدار أو نحوه، و(الأبّ): المرعى قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة، وقال الضحاك: (الأبّ): التبن، وفي اللفظة غرابة وقد توقف في تفسيرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، و{متاعاً} نصب على المصدر، والمعنى تتمتعون به أنتم وأنعامكم، فابن آدم في السبعة المذكورة، والأنعام في الأبّ. اهـ.
من الإعجاز العلمي في القرآن: للدكتور زغلول النجار:
بحث بعنوان: من أسرار القرآن: